فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولًا من النور فيه، والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلومًا حسن الحذف.
والثاني: أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله: {فَالِقُ الإصباح} أي فالق الإصباح ببياض النهار.
والثالث: أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله: {فَالِقُ الإصباح} أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب.
الرابع: قال بعضهم: الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وجعل الليل سكنًا} فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية على التوحيد.
فأولها: ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم.
وثانيها: قوله: {وجعل الليل سكنًا}.
وفيه مباحث:
المبحث الأول: قال صاحب الكشاف: السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناسًا به واسترواحًا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل: للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها المؤنسة.
ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان لأنه أتعب نفسه بالنهار واحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل.
فإن قيل: أليس أن الخلق يبقون في الجنة في أهنأ عيش، وألذ زمان مع أنه ليس هناك ليل؟ فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا: كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم، أما في الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فيه فظهر الفرق.
المبحث الثاني: قرأ عاصم والكسائي {وَجَعَلَ الليل} على صيغة الفعل، والباقون جاعل على صيغة اسم الفاعل حجة من قرأ باسم الفاعل أن المذكور قبله اسم الفاعل، وهو قوله: {فَالِقُ الحب فَالِقُ الإصباح} [الأنعام 95- 96] وجاعل أيضًا اسم الفاعل.
ويجب كون المعطوف مشاركًا للمعطوف عليه، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله: {والشمس والقمر} منصوبان ولابد لهذا النصب من عامل، وما ذاك إلا أن يقدر قوله: {وَجَعَلَ} بمعنى وجاعل الشمس والقمر حسبانًا وذلك يفيد المطلوب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والإصباح بكسر الهمزة في الأصل مصدر أصبح الأفُق، إذا صار ذا صباح، وقد سمّي به الصباح، وهو ضياء الفجر فيقابل اللّيلَ وهو المراد هنا.
وفلْق الإصباح استعارة لظهور الضّياء في ظلمة اللّيل، فشبّه ذلك بفلق الظلمة عن الضّياء، كما استعير لذلك أيضًا السّلخ في قوله تعالى: {وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار} [يس: 37].
فإضافة {فالق} إلى {الإصباح} حقيقيّة وهي لأدنى ملابسة على سبيل المجاز.
وسنبيّنه في الآية الآتية لأنّ اسم الفاعل له شائبة الاسميّة فيضاف إضافة حقيقيّة، وله شائبة فعلية فيضاف إضافة لفظيّة.
وهو هنا لمّا كان دالًا على وصف في الماضي ضعف شبهه بالفعل لأنّه إنّما يشبه المضارع في الوزن وزمننِ الحال أو الاستقبال.
وقد يعتبر فيه المفعوليّة على التّوسّع فحُذف حرف الجرّ، أي فالق عن الإصباح فانتصب على نزع الخافض، ولذلك سمَّوْا الصّبح فَلَقًا بفتحتين بزنة ما بمعنى المفعول كما قالوا مسكَن، أي مسكون إليه فتكون الإضافة على هذا لفظية بالتأويل وليست إضافته من إضافة الوصف إلى معموله إذ ليس الإصباح مفعول الفلْق والمعنى فالق عن الإصباح فيعلم أنّ المفلوق هو الليل ولذلك فسّروه فالق ظلمة الإصباح، أي الظلمة التي يعقبها الصبح وهي ظلمة الغَبَش، فإنّ فلق الليل عن الصبح أبدع في مظهر القدرة وأدخل في المنّة بالنعمة، لأنّ الظلمة عدم والنور وجود.
والإيجاد هو مظهر القدرة ولا يكون العدم ومظهرًا للقدرة إلاّ إذا تسلّط على موجود وهو الإعدام، وفلق الإصباح نعمة أيضًا على النّاس لينتفعوا بحياتهم واكتسابهم.
{وجاعل اللّيل سكنًا} عطف على {فالق الإصباح}.
وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل وجرّ {اللّيلِ} لمناسبة الوصفين في الاسميّة والإضافة.
وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلَف.
{وجَعَل} بصيغة فعل الماضي وبنصب {اللّيل}.
وعُبّر في جانب اللّيل بمادة الجعل لأنّ الظلمة عدم فتعلّق القدرة فيها هو تعلّقها بإزالة ما يمنع تلك الظلمة من الأنوار العارضة للأفق.
والمعنى أنّ الله فلق الإصباح بقدرته نعمة منه على الموجودات ولم يجعل النّور مستمرًا في الأفق فجعله عارضًا مجزءًا أوقاتًا لتعود الظّلمة إلى الأفق رحمة منه بالموجودات ليسكنوا بعد النّصَب والعمل فيستجمّوا راحتهم.
والسكَن بالتَّحريك على زنة مُرادف اسم المفعول مثل الفَلَق على اعتباره مفعولًا بالتوسّع بحذف حرف الجرّ وهو ما يسكن إليه، أي تسكن إليه النّفس ويطمئنّ إليه القلب، والسّكون فيه مجاز.
وتسمّى الزّوجة سكَنًا والبيتُ سكنًا قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا} [النحل: 80]، فمعنى جَعْل اللّيل سكنًا أنّه جعل لتحصل فيه راحة النّفس من تعب العمل. اهـ.

.قال الفخر:

وأما قوله تعالى: {والشمس والقمر حُسْبَانًا} ففيه مباحث:
المبحث الأول: معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاءً والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] وقال في سورة الرحمن: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة، وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر، وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة، وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار، وحصول الغلات، ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع، لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله: {والشمس والقمر حُسْبَانًا}.
المبحث الثاني: في الحسبان قولان: الأول: وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان.
والثاني: أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان.
وقال صاحب الكشاف: الحسبان بالضم مصدر حسب، كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب، ونظيره الكفران والغفران والشكران.
إذا عرفت هذا فنقول: معنى جعل الشمس والقمر حسبانًا جعلهما على حساب.
لأن حساب الأوقات لا يعلم إلا بدورهما وسيرهما.
المبحث الثالث: قال صاحب الكشاف: {والشمس والقمر} قرئا بالحركات الثلاث، فالنصب على إضمار فعل دل عليه قوله: {جَاعِلِ الليل} أي وجعل الشمس والقمر حسبانًا، والجر عطف على لفظ الليل، والرفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره، والشمس والقمر مجعولان حسبانًا: أي محسوبان.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة، وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

ومعنى {حُسْبَانًا} أي بحساب يتعلّق به مصالح العباد.
وقال ابن عباس في قوله جل وعز: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي بحساب.
الأخفش: حُسْبان جمع حساب؛ مثل شِهاب وشُهبان.
وقال يعقوب: حُسبان مصدر حَسَبْت الشيء أحسُبه حُسبانًا وحِسابًا وحِسْبة، والحساب الاسم.
وقال غيره: جعل الله تعالى سير الشمس والقمر بحساب لا يزيد ولا ينقص؛ فدلّهم الله عز وجل بذلك على قدرته ووحدانيته.
وقيل: {حُسْبانًا} أي ضياء والحسبان: النار في لغة؛ وقد قال الله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السماء} [الكهف: 40].
قال ابن عباس: نارًا.
والحُسْبانة: الوِسادة الصغيرة. اهـ.

.قال الخازن:

{والشمس والقمر حسبانًا} يعني أنه تعالى قدر حركة الشمس والقمر في الفلك بحسبان معين.
قال ابن عباس: يجريان إلى أجل جعل لهما يعني عدد الأيام والشهور والسنين وقال الكلبي منازلهما بحسبان لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية من الأشياء التي خلقها بقدرته وكمال علمه وهو المراد بقوله: {تقدير العزيز العليم} فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة إلى كمال علمه. اهـ.

.قال ابن جزي:

{حُسْبَانًا} أي يعلم بهما حساب الأزمان والليل والنهار {ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} ما أحسن ذكر هذين الإسمين هنا لأن العزيز يقلب كل شيء ويقهره، وهو قد قهر الشمس والقمر وسخرهما كيف شاء، والعليم لما في تقدير الشمس والقمر والليل والنهار من العلوم والحكمة العظيمة وإتقان الصنعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَجَعَلَ الليل سَكَنًا} أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسًا به واسترواحًا إليه من زوج أو حبيب يقال له: سكن، ومنه قيل للنار: سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة وروي نحوه عن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونًا فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [يونس: 67] وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين {جَاعِلِ} بالرفع.
وقرئ شاذًا بالنصب و{الليل} فيهما مجرور بالإضافة، ونصب {سَكَنًا} عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة {جَعَلَ}.
وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقًا حملًا له على الفعل الذي تضمن معناه.
وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل.
وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعرف باللام، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف، واختار بعضهم كونه الناصب أيضًا لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك كما قال بعض المحققين فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل.
وجوز أن يكون {جَعَلَ} بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبًا على الحال.
{والشمس والقمر} معطوفان على {الليل} وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بفعل المقدر الناصب لسكنًا أو بآخر مثله، وقيل: بالعطف على محل {الليل} المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضي.
وقرئ بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان {حُسْبَانًا} أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانًا.
والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل.
وعن أبي الهيثم أن {حُسْبَانًا} جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب؛ وفي إرادته هنا بعد.
{ذلك} إشارة إلى جعلهما كذلك.
وقال الطبرسي: إلى ما تقدم من فلق الإصابح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا، والجمهور على الأول وهو الظاهر، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن {تَقْدِيرُ العزيز} أي الغالب القاهر الذي لا (يستعصي عليه) شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص {العليم} المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وعُطف {الشمس والقمر} على {اللّيل} بالنّصب رعيًا لمحلّ اللّيل لأنّه في محلّ المفعول ل {جاعل} بناء على الإضافة اللّفظيّة.
والعطف على المحلّ شائع في مواضع من كلام العرب مثل رفع المعطوف على اسم (إنّ)، ونصب المعطوف على خبَر ليس المجرور بالباء.
والحسبان في الأصل مصدر حَسَب بفتح السّين كالغُفران، والشُّكران، والكفران، أي جعلها حسابًا، أي علامة حساببٍ للنّاس يحسبون بحركاتها أوقات اللّيل والنّهار، والشّهور، والفصول، والأعوام.
وهذه منّة على النّاس وتذكير بمظهر العلم والقدرة، ولذلك جعل للشّمس حسبان كما جُعل للقمر، لأنّ كثيرًا من الأمم يحسبون شهورهم وأعوامهم بحساب سير الشّمس بحلولها في البروج وبتمام دورتها فيها.
والعرب يحسبون بسير القمر في منازله.
وهو الذي جاء به الإسلام، وكان العرب في الجاهليّة يجعلون الكبس لتحويل السنة إلى فصول متماثلة، فموقع المنّة أعمّ من الاعتبار الشّرعي في حساب الأشهر والأعوام بالقمري، وإنّما استقام ذلك للنّاس بجعل الله حركات الشّمس والقمر على نظام واحد لا يختلف، وذلك من أعظم دلائل علم الله وقدرته، وهذا بحسب ما يظهر للنّاس منه ولو اطّلعوا على أسرار ذلك النّظام البديع لكانت العبرة به أعظم.
والإخبار عنهما بالمصدر إسناد مجازي لأنّه في معنى اسم الفاعل، أي حاسبين.
والحاسب هم النّاس بسبب الشّمس والقمر.
والإشارة بـ {ذلك} إلى الجعل المأخوذ من {جاعل}.
والتّقدير: وضع الأشياء على قدْر معلوم كقوله تعالى: {وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرًا} [الفرقان: 2].
والعزيز: الغالب، القاهر، والله هو العزيز حقًّا لأنّه لا تتعاصى عن قدرته الكائنات كلّها.
والعليم مبالغة في العلم، لأنّ وضع الأشياء على النّظام البديع لا يصدر إلاّ عن عالم عظيم العلم. اهـ.